عبدالقادر الجيلاني ـ رحمه الله ـ
روح حاضرة وقلب نابض بالحب والحياة
لا شيء في هذه الحياة يفاجئك كموت الأدباء والشعراء، يشبهون قصـــــــــــــــــــــــــــائدهم في روعتها وتألقها وتأليها، ومراوغتها، وخفتها، وارتفاعها عن الدنايا، ووقوعها في براثن النســــــــــــــــــــــــــــــيان أخيرا، كل شيء يوحي بأن القصيدة الجميلة تشبه روح الشـــــــــــــــــــــاعر، خفيفة الظل، طيبة المعشر، بالغة الأثر، يفرح بها الناس برهـــــــــــــــــة من الزمن، يحتفون بها احتفاءً مردّه إلى ما تتركه فيهم من أثر جميل، ســــــــــــــــــــرعان ما تنســـــــــرب في واقعها الحياتي العنيف، وتعــــــــــــــــــــود إلى
حالتها الأولى من الرتابة والضجر، وربما القنوط الذي يســــــــــــــــــــــــيطر على النفس الأبية، ثم يعود الناس إلى حيواتهم المختلفة غير آبهين بها.
في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وفي جو تربوي مبدع، كثيف الأثــر على القلوب، يمكنك أن تتنسم رائحة النقاء التعليمي الأصــــــــيل، الزمن الجميل المشرق الذي ترى فيه كل شيء يســــــــــــــــــــــــــــــيّجه الحب والمودة والإخـــــــــــــــــــــــــلاص، ويؤطره التفاني العجيب، خرج في ذلك الوقت كوكبة من المعلمين، كان الأســـــتاذ عبد القادر الجيلاني رحمه الله أحدهم، بل من أشــــــــــــــــــــــــــــهرهم، كان متعــــــــــــــــــــدد المواهب، متنوع القدرات، شـــاعراً وقائدا كشفيا، قارئا للتراث الجميل، ومشـــــــــــــــــــــــــــــاركا في الفنون الأصـــــــــــــــــــــــيلة، شعلة نشاط، يبحث عن المواهب الشـعرية، وينقب بحس أصــــــــــــــــــــــــــيل مبدع عن القدرات الطلابية المخبوءة بين التلاميذ، ويشــــــــــــــــــــجعها، ويتعهدها بالرعاية والصقل.
كان كثير الاستشهاد بالشعر، تطاوعه ذاكرته الجميلة في اســــــــــــــــــــــــتحضار التراث الشــــــــعري، تليده وطــــــــــــــارفه، وتنقــــــــــــاد له الكلمــــــة فلا يتلكأ في ارتجال القصـــــــــــــــــيدة الكاملــــــــــــــة والأبيـــــــــــــــــــات المختلفة، وتكون ابنة ساعتها، ووليدة لحظتها، وكم سمعناه في حفــــــــــــــــــــــــــــــلات الســــــــــــــــــــمر التي ألِفَها الكشافة يلقى أشعاراً له مما جادت به قريحته، وأشــــــــــــــــــــــــــــــــــعاراً كانت تهبه لنا ذاكرته العجيبة، وهو طويل النفس في المســــــــــــــــــــــابقات الشــــــــــــــــــــــــــعرية التي اعتـــــــــــــــــــادها الكشـــــــــــــــــــــــــــــــافة في مسابقاتهم الثقافية، والتي تبدأ بالحرف الهجائي من حيث ينتهي المتســـــــــــــــابق الآخر، حتى صــــــــــــــــــــــار خبيرا بها، محترفاً لطرائقها، وكل هذا وروحــــــــــــــــــــــــــه البريئة النقية تكتنف تصــــرفاته، وترافق حياته، وتجسد تواضعه الجميل، وفي جبينه المشرق ضياء أخوي حميم، تــــــــردفه ضحكة دافئة مميزة، مشفوعة ببحة صـوت عميقة، وســــــــــــــــــعال خفيف كان رفيقه دوما، يحاول أن يصده بيده خشية أن يؤذي غيره.
كانت بداياته في التعليم غير عادية، وهو الذي درّس منهج اللغة العربية في مدرســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــة أحمد بن ماجد، فكان يدرس نحوها وصرفها ونصــــــــــوصــــــها الأدبية المختــــــــــــــلفة، ولم يكتفِ بذلك، بل كان يؤلف الأناشــــــــــــــــــــــــيد الصباحـــــــــــــــــــــية للطلبة، ويضع ألحانها بنفســه، ويحفّظها للطلبة، ومازالت بقايا الذاكرة عبقة بتلك الأناشيد الرائعة، وبطــــــــــــــــرائق ألحانها التي يأتي بها من نماذج لأناشـــــــــــــــــــــــيد وطنية كانت ســـــــــــــــــــــــــــــــائدة آنذاك، وأذكــــــــــــــــــــــــــر أنه جاءنا مرة في أحـــــــــد صباحات الشــــــــــــــــــــــــــتاء الدافئ في مدرســـــــــــتنا، وفي بداية الطابور، وألقى علينا نشـــــيدا جديداً للعلم، وكلفنا أن نحفظه، وأن نلقيه في اليــــوم التالي، فكان ذلك مدعاة لحماســـــــــــــــــــــــــنا إزاء النشـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيد الجديد، وبأصواتٍ طفولية منتشية لأدائه بروح مقبلة على الحياة العلمـــية الجميلة.
وما زال زميلنا الأخ علي سالم خاطر يحفظ عن ظهر قلب معظـــــــــــــــــم الأناشــــــــــــــــــــــيد التي ألفها الأستاذ عبد القادر، أو تلك التي استفادها من أناشيد وطنية ســــــــــــــــــــــــــائدة آنذاك، وما زال يحفظ حتى حركات إلقائها، وتمايل الجسد الطفولي حين إنشادها، والنغمة الموسيقية المصاحبة لها، ولم يكن عليٌّ يحفظ تلك الأناشيد فقط بل كل الأناشيد التي مرّت علينا في المقـــــــــــــــــــــــــــــرر، وما زال حتى الآن يحفــــــــــــــــظ الدروس النثرية والشــــــــــــــــــــعرية، كدرس "الطيـــــــــــــــــور المهاجرة"، و"الغزالة العـــــــــــــــــــــوراء"، وذلك الدرس العجيب عن تلك المرأة العجـــــــــــــــــــــــــــــــــــوز التي صدمها أحد الأولاد العابثين بدراجته، ولم يلتفت لها، ولم يســــــــــــــــــــــــــــاعدها كي تقوم وتكمل سيرها، فما كان منها إلا أن صرخت على ذلك الولد: لقد ضــــــــــــــــــــــــــاع منك شيء ثمين يا بني! ورجع مسرعا يبحث عما ضاع منه، فلما لم يجد شــــــــــــــــــــــــــيئا، ســـأل المرأة العجوز: ما الذي قد ضاع مني؟ فأجابته: يا بني لقد ضاعت منك أخلاقك!!.
كانت هذه الدروس وأشــــــــــــــــــــباهها تكوّن مفــــــــــــهوم القيمة الخلقــــــــية لدينا، وتخلـــــــــــــــــــــــــــــق مبادئ التعامل الجميل في مدارسنا، وكان المعلمون أمثال الأستاذ عبد القادر هم من تتجســــــــــــــد فيهم روح تلك القيم، ولا تجد شــــــــــــــــــــــيئا من التقاطع الخلقي والتعليمي لديهم، ولا تختلف حياة أستاذنا التعليمية عن سياقها الاجتماعي.
شيء عجيب روح شاعرة مبدعة، تنســـــــــــــــــــــــــــــجم مع عملها الريادي، وتتواءم مع نشــــــــــــــــــــــــاطها المحبب النازع نحو الترحال، الراغب في ارتياد الأمكنة، والتنقل من أرض إلى أرض، ومن فضاء رحب إلى آخر أرحب يجد الشـــــــــــــــــاعر فيه بُغيته، وينال بها الأســـــــــــــــــــــــــــتاذ بعض أمنياته المنكسرة.
وأذكر أنه نُقل إلى منطقة الأشخرة، لكي يكون مديرا بها، وكانت أســــــــــــــــماء الطلبة مرتبطة ببيئتها البحـــــــــــــــــــــــــرية، كعادة العرب في تسمية أبنائهم، فكان ولي الأمر يحضر ابنه المســــــــتجد وله اسم، ويذهب وله اسمٌ آخرُ جميلٌ، لم تعجبه أسماؤهم التي يتســـــــــــــــــــــــــــــــــــــمّوَن بها، فكان الطالب فخورا باسميْنِ، واحدٍ في بيته وبين أقرانه، وواحدٍ في المدرسة ينســجم مع الروح العلمية الجديدة.
كان الأستاذ عبد القادر حاضر النكتة ففي روحه المــــرحة التي تُخـــــــــــــــــــــرج أحيانا نفثاتٍ مُرّة من جرّاء ما يواجه التربوي المخلص من قضــــــــــــــــــــــــــايا يعجب لها الإنســـــــــــــــــــان، ولا يكاد يصدق كيف تجري مثل هذه الأمور في المؤسسات العلمية التي تبني النشء، وتشـــــــــــــــــــــــــيد العقول، وتحيي موات المعــــــــــــــــــــرفة، ففي الزمــــــــــــــــــــــــــــــــــن التعليمي البعيد، حيث كانت المدارس في هدأتها، والعلم في ســــــــكونه المبدع، كانت تنقلات المعلمين قليلة بين المدارس، وكانت أعداد الذين يتحركون في عملية النقل قليلة ونادرة، وفجأة في إحدى السنين، ظهرت كشــــــــــــــــــــــوفٌ كبيرة مطوّلة تحوي مئات الأســــــــــــــــــــــــماء من المعلمين في قائمـــــــــــــــــــــــــــة الانتقال الداخـــــــــــــــــــــــــــــــــــلي، فلمّا رآها بين يدي، أخذها وقلّبها ســــــــــــــــــــــريعا كمن يتطلع إلى أسماء معينة أين سيكون مآلها في هذه الكشوف، ورفع رأسه مبتسما بسخرية عجيبة ليقول: "هذه سَـــــــــــــــــنة اليَعْثْ"!!، واليَعْثُ كلمة عاميــــة تعني الفوضـــــــــــــــــــى المقصــــــــــــــــــــــــــــــــودة، والعبث المتعمد، وربما كانت هذه الكلمـــــــــــــــــــــــة "اليعث" أبعد إيحـــــــــــــاء وأكثر دلالة من تفســــــــــــــــــــــــــــــــيرها هذا، ولعلها توحــــــــــــــــــــــــي بواقـــــــــــــــــــــــــــع تعليمي تختفي فيه البشائر الجميلة التي كانت في زمنه المشرق.
أصدق ما يقال عن الأســـــــــــــــــــــــــــتاذ عبد القادر أنه أديب مطبـــــــــــــــوع، وشاعر بالفطرة، وتتمتع سجيته الشعرية بزخم تراثي كبير، ويحمل في طياته روحا شـــــــــــــــــــــــــــاعرة، وأُذُناً موســـــــــــــــــــــــيقية ملهمة، جعلته مشاركا في معظم الفنون الشــــــــــعرية الأصيلة خاصة التراثية منها، ولا تكاد تبحث عن فن شـــــــــــــــــــــــــــــــعري إلاّ ولأســــــــــــــــــــــــــــــــتاذنا يدٌ طُولى فيه، يكتبه ثم يلحنه بنفســــــــــه تلحينا مبدئيا، فهو لم يكــــــــــــن يعزف على شـــــــــيء من الآلات إلا عزفا داخليا يعتمـــــــــــــــــــــــــــــل في مخيلته، ويثريه موروث نغمي، ويردُفُه تاريخٌ موسيقي غني، كان أستاذنا قد خَبَره، وتَشرّبه، فأعاد إنتاجه بمهارة فائقة، وتقنية جميلة، وكان ينظم الشــــــــــــــــــــــــعر بالفصــــــــــــحى والعامية، غير أن ضجره بالقصيدة جعله لا يعود إليها، ولا ينقحها، وهذه سجية الشـــــــــــعراء المطبوعين، لا يملكون الوقت للرجوع لإبداعهم، ولا يستطيعون أن يقفوا على قصــــــــــــــــــــــــــــائدهم مرة أخرى كي تظهر بحلة أنيقة.
ولأنه طيب القلب فقد كانت قصــــــــــــــــــــــــــائد المناســــــــــــــــــــــــــــــــــــبات حاضرة في إبداعه، والسبب يعود في هذه إلى روحه الاجتماعية القابلة للمشـــــــــــــــــــــــــــــــــاركة في كل فعالية، ونَفْسُــــــــــــــه الودودة التي نادراً ما ترفض أي طلب، وهوس المنظمين للمناسبات إلى وجود شــــــــــــــاعر يلقي قصيدة في محافلهم الكثيرة.
كان يدرك أن القصـــــــــــــــــــيدة في هذه المحافل شبيهة بالعصـــــــا التي يتأبطها الرجل ليكمل بها تأنقه، ويســــــــــــــــــــــــــــــــــتوفي بها هيئته، ولذا فهي لا بأس بها، ولا ضــــــــــــــــــير من وجودها، خاصة وأن المبدعين شديدو التبرم بهكذا قصائد، فأراحهم أستاذنا من قصائد المناســــــــــــــــبات، وتكفل هو بتبِعَتِها، وأعجب شيء أنهم كانوا يطلبون إليه قصائد مفصلة، مشـــــــــــــــــــــــــــــــحونة بأســــــــــماء الولايات، ونوعية الفعالية، وربما أهدافها إن وجدتْ، لم يكن هو مَعْنيَاً بهذا، بقــــــــــــــدر ما كان يريد أن يكمل مهمته التي نصّــــــــــــــــــــــــب نفســـه من أجلها، غير آبهٍ بما يقوله عنه الناس، حاملاً عن أخوته الشعراء هذا الهمّ المزعج.
كان من حظي معه أنه يستشيرني في قصــــــــــــــــــــــــــــــائده الفصيحة أحياناً، وهو ما لم يفعله مع أحد حســـــــــــــب علمي، ويرضــــــــــــــــــــــــــــــــى بملاحظتي القليلة حـــــــــــــــــــــــولها، وقــــد يأخـــــــــــــــــــــــــــــــــــذ بها، وقد يبرم بها، ويرتضي إبــــــــــــــــــــــداعه دون تغـــــــــــيير، وكانت تلك هِبةُ أبوّةٍ تعليمية لأحد تلاميذه، كثيرا ما اعتززتُ بها، وحين تجلس إليه، وتناقشـــــــــــــــــــــــــــه في بعض ألفاظ القصـــــــــــــــــــــــيدة، كانت الألفاظ المترادفة تتداعى عليه بطريقة عجيبة، تشــــــــــــــــــــــــــــعر من خلالها أنك أمام معجـم ثري متنوع، وهو في سرعة بديهته، وذكائه الفطـــــــــــــــــــــــــري يحـــــــــــــــــــــــــوّل الكلمة في ثوانٍ إلى كلماتٍ أُخرَ، أبعد دلالة، وأشد اتساقاً، وأجمل وقعا.
نظم أستاذنا مرة قصيدة مطولة، واتصـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل يســـــــــــــــــــــــــــــــــــألني عن مكاني قلت له: أنا الآن في الباطنة، قال: ابحث عن فاكس قريب كي أرســـــــــــــــــــــــــــــل لك القصـــــــــــــيدة، فأجبته: أنا أسمعك الآن، قلها، فرد بسرعة: إنها طويلة جدا.. بحثت له عن فاكس قريب، كان المحـــــــــــــــــــــل مهتما ببيع العقارات، وتعمل بها فتاة عمانية، اســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتأذنتُه ا في أخذ رقم الفاكس لأني أنتظـــــــــــــــــر أوراقاً مهمة، ولم أخبرها أني أنتظرُ قصيدة من أحد شـــــعرائنا، خشـــــــــــــــــــــــــــية أن تغيّر رأيها في إعطائي الرقم، وتركت رقم هاتفي لكي تهاتفني حين تصـــــــــــــــــــــــــــل القصــــــــــــــــــــــيدة، لم تتصل فتاة المحل، فاضطررت إلى الذهاب إليها في اليوم الثاني، فســـــــــــــــــــألتها: هل وصل شيء؟ فأومأت برأسها بطريقة إيجابية أن نعم، وسألتها: أين الأوراق، فقالت: خذ هذه هي القصـــــــــــــــــــــيدة!! كانت القصيدة طويلة واستهلكت طيّة ورقية طويلة أيضا، ولم تكن أوراقا منفردة، لذا حين فردتُ القصيدة وقُستها، كادتْ تماثلني طولاً، كان داخلي يبتسم لطريقة الأســــــــــــــــــــــــــتاذ عبد القادر الجميلة في نَفَسِهِ الشعري الممتد، وكانت الفتاة تنظر إليّ وإلى القصـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيدة وتشفق على ثلاثتنا الأستاذ عبد القادر وأنا والقصيدة، من هذا العناء الجميل المســــــــمى "شِعرا" بحيث يكلّفنا كل هذا الأمر.
في تلك اللحظة شعرت بهذه المنظومة الســـــــــــــــــــــــــــــــيميائية الشـــــــــــــــــــــــــــــــــــــهيرة المُرسِــــــــــــل والمُرسَل إليه والرسالة، فضلا عن المتلقية التي آثرت أن تبتعد عن نفحات الشعر ولفحاته، وســــــــألتها: كم تكلفني هذه القصيدة لاســــــــــــــــــــــــــــــتخدامي الفاكـــــــــــس وطيّة الورق الطويلة، فأجابت بكرم عماني فطري: لا شيء! الأمر لا يســــــــــــــــــــــــــــــــــتحق، كانت نظـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــراتها تقـــــــــــــــــــــــــــــــول: أعانكما الله على بلواكما.
لم يكن بالقصـــــــــــــــــــيدة ملاحظات كثيرة، اتصلت بالأستاذ عبد القادر، وأخبرته عن طريقة وصول القصيدة بالفاكس وكيف كان شكلها، وأحسستُ بضحكته الشهيرة المميزة، وهي تخترق الآفاق، وبروحه الجميلة التي تصـــــــــــــــــــــــــلك إيجابياتها أينما تكون حين تمر ذكراه على خاطــــــــــــــــــــــــــــرك، أخبرته بملاحظاتي القليلة حولها، تقبّلها بصدره الرحب، وأريحيته الكريمة.حين كنا صغارا كن نسمع عن صفات الكشـــــــــــــــــــــــــاف الأمين الصادق الباش المؤمن الكريم إلى غيرها من السجايا التي كانت تشبه الميثاق في أهميتها لدى الكشافة، وكان الأســــــــــــــــــتاذ عبد القادر تنسجم هذه الســـــــــــــــجايا في كينونته دون عناء، وتتجســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــد فيه دون تكلف، فلذلك لا أحد ينكر جمال روحه، وقربه من القلب، ونفســـــــــــــــــــه المرحة، وسخائه الفطري، وتواضعه الجم.
وحين ترى إيجابيته الجميلة وقبوله دعوات أخوانه دون تردد، وزياراته المتكررة لزملائه في الســــــــــــــــــــلطنة والذين يجمعهم الهمُّ الكشـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــفي الرائد، يمكنك أن ترى إلى أي حدٍّ كان أستاذنا متماهياً مع شعار الكشافة " كن مســــــــــــــــــتعدا"، فهو في حالة تأهب دائم، وترحال مستمر، وسفر أزلي.
ظلت روحه الفتية معه، تسايره في رحلاته الكثيرة، وزياراته العديدة، وانطلاقاته الكشفية التي ترود الحياة التربوية في معظم محافظات السلطنة، قلما يشيخ مثل هؤلاء الناس، ونادرا ما تشيخ أرواحهم، لعل نبضها الحياتي السخي هو ما يعجّل خروجها إلى الحياة الأخرى، وهذا الاحتراق المبدع كفيل أن يرهق الروح والبدن، وكفيل أن يكدر صفو الرؤى الممتزجة بالخير.
إن الذي عرف الأستاذ عبد القادر ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ عن كثب، لا بد أن يلاحظ تلك الروح الطفولية البريئة المتوهجة، التي قلما تخرج عن مسارها النقي، كان ذكي القلب، سريع البديهة، حاضر النكتة، لطيف العبارة، رقيق الفؤاد، شديد التأثر، سرعان ما تترقرق دموعه في محجره لأدنى سبب.
روح حاضرة وقلب نابض بالحب والحياة
لا شيء في هذه الحياة يفاجئك كموت الأدباء والشعراء، يشبهون قصـــــــــــــــــــــــــــائدهم في روعتها وتألقها وتأليها، ومراوغتها، وخفتها، وارتفاعها عن الدنايا، ووقوعها في براثن النســــــــــــــــــــــــــــــيان أخيرا، كل شيء يوحي بأن القصيدة الجميلة تشبه روح الشـــــــــــــــــــــاعر، خفيفة الظل، طيبة المعشر، بالغة الأثر، يفرح بها الناس برهـــــــــــــــــة من الزمن، يحتفون بها احتفاءً مردّه إلى ما تتركه فيهم من أثر جميل، ســــــــــــــــــــرعان ما تنســـــــــرب في واقعها الحياتي العنيف، وتعــــــــــــــــــــود إلى
حالتها الأولى من الرتابة والضجر، وربما القنوط الذي يســــــــــــــــــــــــيطر على النفس الأبية، ثم يعود الناس إلى حيواتهم المختلفة غير آبهين بها.
في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وفي جو تربوي مبدع، كثيف الأثــر على القلوب، يمكنك أن تتنسم رائحة النقاء التعليمي الأصــــــــيل، الزمن الجميل المشرق الذي ترى فيه كل شيء يســــــــــــــــــــــــــــــيّجه الحب والمودة والإخـــــــــــــــــــــــــلاص، ويؤطره التفاني العجيب، خرج في ذلك الوقت كوكبة من المعلمين، كان الأســـــتاذ عبد القادر الجيلاني رحمه الله أحدهم، بل من أشــــــــــــــــــــــــــــهرهم، كان متعــــــــــــــــــــدد المواهب، متنوع القدرات، شـــاعراً وقائدا كشفيا، قارئا للتراث الجميل، ومشـــــــــــــــــــــــــــــاركا في الفنون الأصـــــــــــــــــــــــيلة، شعلة نشاط، يبحث عن المواهب الشـعرية، وينقب بحس أصــــــــــــــــــــــــــيل مبدع عن القدرات الطلابية المخبوءة بين التلاميذ، ويشــــــــــــــــــــجعها، ويتعهدها بالرعاية والصقل.
كان كثير الاستشهاد بالشعر، تطاوعه ذاكرته الجميلة في اســــــــــــــــــــــــتحضار التراث الشــــــــعري، تليده وطــــــــــــــارفه، وتنقــــــــــــاد له الكلمــــــة فلا يتلكأ في ارتجال القصـــــــــــــــــيدة الكاملــــــــــــــة والأبيـــــــــــــــــــات المختلفة، وتكون ابنة ساعتها، ووليدة لحظتها، وكم سمعناه في حفــــــــــــــــــــــــــــــلات الســــــــــــــــــــمر التي ألِفَها الكشافة يلقى أشعاراً له مما جادت به قريحته، وأشــــــــــــــــــــــــــــــــــعاراً كانت تهبه لنا ذاكرته العجيبة، وهو طويل النفس في المســــــــــــــــــــــابقات الشــــــــــــــــــــــــــعرية التي اعتـــــــــــــــــــادها الكشـــــــــــــــــــــــــــــــافة في مسابقاتهم الثقافية، والتي تبدأ بالحرف الهجائي من حيث ينتهي المتســـــــــــــــابق الآخر، حتى صــــــــــــــــــــــار خبيرا بها، محترفاً لطرائقها، وكل هذا وروحــــــــــــــــــــــــــه البريئة النقية تكتنف تصــــرفاته، وترافق حياته، وتجسد تواضعه الجميل، وفي جبينه المشرق ضياء أخوي حميم، تــــــــردفه ضحكة دافئة مميزة، مشفوعة ببحة صـوت عميقة، وســــــــــــــــــعال خفيف كان رفيقه دوما، يحاول أن يصده بيده خشية أن يؤذي غيره.
كانت بداياته في التعليم غير عادية، وهو الذي درّس منهج اللغة العربية في مدرســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــة أحمد بن ماجد، فكان يدرس نحوها وصرفها ونصــــــــــوصــــــها الأدبية المختــــــــــــــلفة، ولم يكتفِ بذلك، بل كان يؤلف الأناشــــــــــــــــــــــــيد الصباحـــــــــــــــــــــية للطلبة، ويضع ألحانها بنفســه، ويحفّظها للطلبة، ومازالت بقايا الذاكرة عبقة بتلك الأناشيد الرائعة، وبطــــــــــــــــرائق ألحانها التي يأتي بها من نماذج لأناشـــــــــــــــــــــــيد وطنية كانت ســـــــــــــــــــــــــــــــائدة آنذاك، وأذكــــــــــــــــــــــــــر أنه جاءنا مرة في أحـــــــــد صباحات الشــــــــــــــــــــــــــتاء الدافئ في مدرســـــــــــتنا، وفي بداية الطابور، وألقى علينا نشـــــيدا جديداً للعلم، وكلفنا أن نحفظه، وأن نلقيه في اليــــوم التالي، فكان ذلك مدعاة لحماســـــــــــــــــــــــــنا إزاء النشـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيد الجديد، وبأصواتٍ طفولية منتشية لأدائه بروح مقبلة على الحياة العلمـــية الجميلة.
وما زال زميلنا الأخ علي سالم خاطر يحفظ عن ظهر قلب معظـــــــــــــــــم الأناشــــــــــــــــــــــيد التي ألفها الأستاذ عبد القادر، أو تلك التي استفادها من أناشيد وطنية ســــــــــــــــــــــــــائدة آنذاك، وما زال يحفظ حتى حركات إلقائها، وتمايل الجسد الطفولي حين إنشادها، والنغمة الموسيقية المصاحبة لها، ولم يكن عليٌّ يحفظ تلك الأناشيد فقط بل كل الأناشيد التي مرّت علينا في المقـــــــــــــــــــــــــــــرر، وما زال حتى الآن يحفــــــــــــــــظ الدروس النثرية والشــــــــــــــــــــعرية، كدرس "الطيـــــــــــــــــور المهاجرة"، و"الغزالة العـــــــــــــــــــــوراء"، وذلك الدرس العجيب عن تلك المرأة العجـــــــــــــــــــــــــــــــــــوز التي صدمها أحد الأولاد العابثين بدراجته، ولم يلتفت لها، ولم يســــــــــــــــــــــــــــاعدها كي تقوم وتكمل سيرها، فما كان منها إلا أن صرخت على ذلك الولد: لقد ضــــــــــــــــــــــــــاع منك شيء ثمين يا بني! ورجع مسرعا يبحث عما ضاع منه، فلما لم يجد شــــــــــــــــــــــــــيئا، ســـأل المرأة العجوز: ما الذي قد ضاع مني؟ فأجابته: يا بني لقد ضاعت منك أخلاقك!!.
كانت هذه الدروس وأشــــــــــــــــــــباهها تكوّن مفــــــــــــهوم القيمة الخلقــــــــية لدينا، وتخلـــــــــــــــــــــــــــــق مبادئ التعامل الجميل في مدارسنا، وكان المعلمون أمثال الأستاذ عبد القادر هم من تتجســــــــــــــد فيهم روح تلك القيم، ولا تجد شــــــــــــــــــــــيئا من التقاطع الخلقي والتعليمي لديهم، ولا تختلف حياة أستاذنا التعليمية عن سياقها الاجتماعي.
شيء عجيب روح شاعرة مبدعة، تنســـــــــــــــــــــــــــــجم مع عملها الريادي، وتتواءم مع نشــــــــــــــــــــــــاطها المحبب النازع نحو الترحال، الراغب في ارتياد الأمكنة، والتنقل من أرض إلى أرض، ومن فضاء رحب إلى آخر أرحب يجد الشـــــــــــــــــاعر فيه بُغيته، وينال بها الأســـــــــــــــــــــــــــتاذ بعض أمنياته المنكسرة.
وأذكر أنه نُقل إلى منطقة الأشخرة، لكي يكون مديرا بها، وكانت أســــــــــــــــماء الطلبة مرتبطة ببيئتها البحـــــــــــــــــــــــــرية، كعادة العرب في تسمية أبنائهم، فكان ولي الأمر يحضر ابنه المســــــــتجد وله اسم، ويذهب وله اسمٌ آخرُ جميلٌ، لم تعجبه أسماؤهم التي يتســـــــــــــــــــــــــــــــــــــمّوَن بها، فكان الطالب فخورا باسميْنِ، واحدٍ في بيته وبين أقرانه، وواحدٍ في المدرسة ينســجم مع الروح العلمية الجديدة.
كان الأستاذ عبد القادر حاضر النكتة ففي روحه المــــرحة التي تُخـــــــــــــــــــــرج أحيانا نفثاتٍ مُرّة من جرّاء ما يواجه التربوي المخلص من قضــــــــــــــــــــــــــايا يعجب لها الإنســـــــــــــــــــان، ولا يكاد يصدق كيف تجري مثل هذه الأمور في المؤسسات العلمية التي تبني النشء، وتشـــــــــــــــــــــــــيد العقول، وتحيي موات المعــــــــــــــــــــرفة، ففي الزمــــــــــــــــــــــــــــــــــن التعليمي البعيد، حيث كانت المدارس في هدأتها، والعلم في ســــــــكونه المبدع، كانت تنقلات المعلمين قليلة بين المدارس، وكانت أعداد الذين يتحركون في عملية النقل قليلة ونادرة، وفجأة في إحدى السنين، ظهرت كشــــــــــــــــــــــوفٌ كبيرة مطوّلة تحوي مئات الأســــــــــــــــــــــــماء من المعلمين في قائمـــــــــــــــــــــــــــة الانتقال الداخـــــــــــــــــــــــــــــــــــلي، فلمّا رآها بين يدي، أخذها وقلّبها ســــــــــــــــــــــريعا كمن يتطلع إلى أسماء معينة أين سيكون مآلها في هذه الكشوف، ورفع رأسه مبتسما بسخرية عجيبة ليقول: "هذه سَـــــــــــــــــنة اليَعْثْ"!!، واليَعْثُ كلمة عاميــــة تعني الفوضـــــــــــــــــــى المقصــــــــــــــــــــــــــــــــودة، والعبث المتعمد، وربما كانت هذه الكلمـــــــــــــــــــــــة "اليعث" أبعد إيحـــــــــــــاء وأكثر دلالة من تفســــــــــــــــــــــــــــــــيرها هذا، ولعلها توحــــــــــــــــــــــــي بواقـــــــــــــــــــــــــــع تعليمي تختفي فيه البشائر الجميلة التي كانت في زمنه المشرق.
أصدق ما يقال عن الأســـــــــــــــــــــــــــتاذ عبد القادر أنه أديب مطبـــــــــــــــوع، وشاعر بالفطرة، وتتمتع سجيته الشعرية بزخم تراثي كبير، ويحمل في طياته روحا شـــــــــــــــــــــــــــاعرة، وأُذُناً موســـــــــــــــــــــــيقية ملهمة، جعلته مشاركا في معظم الفنون الشــــــــــعرية الأصيلة خاصة التراثية منها، ولا تكاد تبحث عن فن شـــــــــــــــــــــــــــــــعري إلاّ ولأســــــــــــــــــــــــــــــــتاذنا يدٌ طُولى فيه، يكتبه ثم يلحنه بنفســــــــــه تلحينا مبدئيا، فهو لم يكــــــــــــن يعزف على شـــــــــيء من الآلات إلا عزفا داخليا يعتمـــــــــــــــــــــــــــــل في مخيلته، ويثريه موروث نغمي، ويردُفُه تاريخٌ موسيقي غني، كان أستاذنا قد خَبَره، وتَشرّبه، فأعاد إنتاجه بمهارة فائقة، وتقنية جميلة، وكان ينظم الشــــــــــــــــــــــــعر بالفصــــــــــــحى والعامية، غير أن ضجره بالقصيدة جعله لا يعود إليها، ولا ينقحها، وهذه سجية الشـــــــــــعراء المطبوعين، لا يملكون الوقت للرجوع لإبداعهم، ولا يستطيعون أن يقفوا على قصــــــــــــــــــــــــــــائدهم مرة أخرى كي تظهر بحلة أنيقة.
ولأنه طيب القلب فقد كانت قصــــــــــــــــــــــــــائد المناســــــــــــــــــــــــــــــــــــبات حاضرة في إبداعه، والسبب يعود في هذه إلى روحه الاجتماعية القابلة للمشـــــــــــــــــــــــــــــــــاركة في كل فعالية، ونَفْسُــــــــــــــه الودودة التي نادراً ما ترفض أي طلب، وهوس المنظمين للمناسبات إلى وجود شــــــــــــــاعر يلقي قصيدة في محافلهم الكثيرة.
كان يدرك أن القصـــــــــــــــــــيدة في هذه المحافل شبيهة بالعصـــــــا التي يتأبطها الرجل ليكمل بها تأنقه، ويســــــــــــــــــــــــــــــــــتوفي بها هيئته، ولذا فهي لا بأس بها، ولا ضــــــــــــــــــير من وجودها، خاصة وأن المبدعين شديدو التبرم بهكذا قصائد، فأراحهم أستاذنا من قصائد المناســــــــــــــــبات، وتكفل هو بتبِعَتِها، وأعجب شيء أنهم كانوا يطلبون إليه قصائد مفصلة، مشـــــــــــــــــــــــــــــــحونة بأســــــــــماء الولايات، ونوعية الفعالية، وربما أهدافها إن وجدتْ، لم يكن هو مَعْنيَاً بهذا، بقــــــــــــــدر ما كان يريد أن يكمل مهمته التي نصّــــــــــــــــــــــــب نفســـه من أجلها، غير آبهٍ بما يقوله عنه الناس، حاملاً عن أخوته الشعراء هذا الهمّ المزعج.
كان من حظي معه أنه يستشيرني في قصــــــــــــــــــــــــــــــائده الفصيحة أحياناً، وهو ما لم يفعله مع أحد حســـــــــــــب علمي، ويرضــــــــــــــــــــــــــــــــى بملاحظتي القليلة حـــــــــــــــــــــــولها، وقــــد يأخـــــــــــــــــــــــــــــــــــذ بها، وقد يبرم بها، ويرتضي إبــــــــــــــــــــــداعه دون تغـــــــــــيير، وكانت تلك هِبةُ أبوّةٍ تعليمية لأحد تلاميذه، كثيرا ما اعتززتُ بها، وحين تجلس إليه، وتناقشـــــــــــــــــــــــــــه في بعض ألفاظ القصـــــــــــــــــــــــيدة، كانت الألفاظ المترادفة تتداعى عليه بطريقة عجيبة، تشــــــــــــــــــــــــــــعر من خلالها أنك أمام معجـم ثري متنوع، وهو في سرعة بديهته، وذكائه الفطـــــــــــــــــــــــــري يحـــــــــــــــــــــــــوّل الكلمة في ثوانٍ إلى كلماتٍ أُخرَ، أبعد دلالة، وأشد اتساقاً، وأجمل وقعا.
نظم أستاذنا مرة قصيدة مطولة، واتصـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل يســـــــــــــــــــــــــــــــــــألني عن مكاني قلت له: أنا الآن في الباطنة، قال: ابحث عن فاكس قريب كي أرســـــــــــــــــــــــــــــل لك القصـــــــــــــيدة، فأجبته: أنا أسمعك الآن، قلها، فرد بسرعة: إنها طويلة جدا.. بحثت له عن فاكس قريب، كان المحـــــــــــــــــــــل مهتما ببيع العقارات، وتعمل بها فتاة عمانية، اســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتأذنتُه ا في أخذ رقم الفاكس لأني أنتظـــــــــــــــــر أوراقاً مهمة، ولم أخبرها أني أنتظرُ قصيدة من أحد شـــــعرائنا، خشـــــــــــــــــــــــــــية أن تغيّر رأيها في إعطائي الرقم، وتركت رقم هاتفي لكي تهاتفني حين تصـــــــــــــــــــــــــــل القصــــــــــــــــــــــيدة، لم تتصل فتاة المحل، فاضطررت إلى الذهاب إليها في اليوم الثاني، فســـــــــــــــــــألتها: هل وصل شيء؟ فأومأت برأسها بطريقة إيجابية أن نعم، وسألتها: أين الأوراق، فقالت: خذ هذه هي القصـــــــــــــــــــــيدة!! كانت القصيدة طويلة واستهلكت طيّة ورقية طويلة أيضا، ولم تكن أوراقا منفردة، لذا حين فردتُ القصيدة وقُستها، كادتْ تماثلني طولاً، كان داخلي يبتسم لطريقة الأســــــــــــــــــــــــــتاذ عبد القادر الجميلة في نَفَسِهِ الشعري الممتد، وكانت الفتاة تنظر إليّ وإلى القصـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيدة وتشفق على ثلاثتنا الأستاذ عبد القادر وأنا والقصيدة، من هذا العناء الجميل المســــــــمى "شِعرا" بحيث يكلّفنا كل هذا الأمر.
في تلك اللحظة شعرت بهذه المنظومة الســـــــــــــــــــــــــــــــيميائية الشـــــــــــــــــــــــــــــــــــــهيرة المُرسِــــــــــــل والمُرسَل إليه والرسالة، فضلا عن المتلقية التي آثرت أن تبتعد عن نفحات الشعر ولفحاته، وســــــــألتها: كم تكلفني هذه القصيدة لاســــــــــــــــــــــــــــــتخدامي الفاكـــــــــــس وطيّة الورق الطويلة، فأجابت بكرم عماني فطري: لا شيء! الأمر لا يســــــــــــــــــــــــــــــــــتحق، كانت نظـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــراتها تقـــــــــــــــــــــــــــــــول: أعانكما الله على بلواكما.
لم يكن بالقصـــــــــــــــــــيدة ملاحظات كثيرة، اتصلت بالأستاذ عبد القادر، وأخبرته عن طريقة وصول القصيدة بالفاكس وكيف كان شكلها، وأحسستُ بضحكته الشهيرة المميزة، وهي تخترق الآفاق، وبروحه الجميلة التي تصـــــــــــــــــــــــــلك إيجابياتها أينما تكون حين تمر ذكراه على خاطــــــــــــــــــــــــــــرك، أخبرته بملاحظاتي القليلة حولها، تقبّلها بصدره الرحب، وأريحيته الكريمة.حين كنا صغارا كن نسمع عن صفات الكشـــــــــــــــــــــــــاف الأمين الصادق الباش المؤمن الكريم إلى غيرها من السجايا التي كانت تشبه الميثاق في أهميتها لدى الكشافة، وكان الأســــــــــــــــــتاذ عبد القادر تنسجم هذه الســـــــــــــــجايا في كينونته دون عناء، وتتجســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــد فيه دون تكلف، فلذلك لا أحد ينكر جمال روحه، وقربه من القلب، ونفســـــــــــــــــــه المرحة، وسخائه الفطري، وتواضعه الجم.
وحين ترى إيجابيته الجميلة وقبوله دعوات أخوانه دون تردد، وزياراته المتكررة لزملائه في الســــــــــــــــــــلطنة والذين يجمعهم الهمُّ الكشـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــفي الرائد، يمكنك أن ترى إلى أي حدٍّ كان أستاذنا متماهياً مع شعار الكشافة " كن مســــــــــــــــــتعدا"، فهو في حالة تأهب دائم، وترحال مستمر، وسفر أزلي.
ظلت روحه الفتية معه، تسايره في رحلاته الكثيرة، وزياراته العديدة، وانطلاقاته الكشفية التي ترود الحياة التربوية في معظم محافظات السلطنة، قلما يشيخ مثل هؤلاء الناس، ونادرا ما تشيخ أرواحهم، لعل نبضها الحياتي السخي هو ما يعجّل خروجها إلى الحياة الأخرى، وهذا الاحتراق المبدع كفيل أن يرهق الروح والبدن، وكفيل أن يكدر صفو الرؤى الممتزجة بالخير.
إن الذي عرف الأستاذ عبد القادر ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ عن كثب، لا بد أن يلاحظ تلك الروح الطفولية البريئة المتوهجة، التي قلما تخرج عن مسارها النقي، كان ذكي القلب، سريع البديهة، حاضر النكتة، لطيف العبارة، رقيق الفؤاد، شديد التأثر، سرعان ما تترقرق دموعه في محجره لأدنى سبب.